قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> أساتذة النحت -> المدارس
التي كانت تسود تماثيل القرن السادس. وقد حذر لوشان الخطباء من أن يكون مسلكهم كمسلك هذه التماثيل العديمة الحياة. فلما أن نحت بيونيوس Paeonius من أهل مندي Mende المقدونية للمسينيين تمثال النصر بعد أن درس فن النحت في أثينة أظهر فيه من الرقة والرشاقة والجمال ما لم يظهره أحد غيره من الفنانين اليونان إلى عهد بركستيليز، وحتى بركستيليز نفسه لم يفقه في تمثيل طيات الثياب المنسدلة على الجسم أو في تمثيل نشوة هذه الحركة .
صفحة رقم : 2220
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> أساتذة النحت -> فدياس
3- فدياس
كان فدياس وأعوانه بين عامي 447، 438 منهمكين في نحت تماثيل البرتنون وحفر نقوشه. وكما كان أفلاطون كاتباً مسرحياً قبل أن يصير فيلسوفاً مسرحياً، كذلك كان فدياس في أول الأمر مصوراً، تتلمذ بعض الوقت على بولجنوتس. ويلوح أنه أخذ عنه أساليب التصميم والتأليف بين الوحدات المختلفة والجمع بين الأشكال لإحداث الأثر الكلي للصورة. ولعله أخذ عنه أيضاً ذلك "النمط العظيم" الذي جعله أعظم مَثال في بلاد اليونان بأجمعها. ولكنه لم يجد في التصوير ما يشبع كفايته لأنه كان في حاجة إلى أبعاد أوسع، فاتجه إلى النحت، ولعله درس فن أجلاداس في صب البرونز وظل يمارسه في صبر وأناة حتى برع في كل فرع من فروعه.
وكان حين فرغ من نحت تمثال أثينة بارثنون في عام 438 قد أصبح شيخاً طاعناً في السن، وشاهد ذلك أنه صور نفسه على درعه شيخاً أصلع طاف به طائف
صفحة رقم : 2221
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> أساتذة النحت -> فدياس
(7/427)
--------------------------------------------------------------------------------
الحزن. ولم يكن أحد ينتظر منه أن ينحت بيديه مئات التماثيل التي امتلأ بها فضاء البارثنون، وإفريزه، وقواصره، وكان حسبه أن يشرف على جميع أبنية بركليز ويضع خطط ما يزينها من تماثيل، ثم يعهد إلى تلاميذه، وخاصةً إلى الكيمنيز، أن يقوموا هم بتنفيذها. على أنه هو نفسه قد نحت ثلاثة تماثيل لإلهة المدينة تقام في الأكربوليس. وقد كلفه بنحت واحد منها المستعمرون الأثينيون في لمنوس، وكان هذا التمثال من البرونز أكبر قليلاً من الحجم الطبيعي، وبلغ من دقته أن كان النقاد اليونان يعدون تمثال أثينة اللمنوسية أجمل تماثيل فدياس كلها بلا استثناء . وثاني هذه التمثيل تمثال أثينة يروماكوس، وهو تمثال برونزي ضخم يمثل الإلهة في صورة المدافعة الحربية عن المدينة. وقد أقيم بين البروبليا Propylaea والإركثيوم Erchtheum، وكان ارتفاعه هو وقاعدته سبعين قدماً، وكان دليلاً للملاحين وتحذيراً لأعداء المدينة . وأشهر هذه التماثيل الثلاثة تمثال أثينة بارثنوس ويبلغ ارتفاعه ثماني أقدام وثلاثين قدماً، وكان مقاماً في داخل البارثنون ويمثل أثينة العذراء إلهة الحكمة والعفة. وكان فدياس يريد أن ينحت هذا التمثال الأخير من الرخام، ولكن الشعب أبى إلا أن يكون من العاج والذهب.فاستخدم الفنان العاج للأجزاء الظاهرة من الجسم كما استخدم أربعين وزنة (2545 رطلاً) من الذهب لصنع الثياب(32)، ثم زينه بالمعادن الثمينة والنقوش المتقنة البديعة على الخوذة، والحذاءين، والدروع. وقد وضع هذا التمثال بحيث تقع أشعة الشمس مباشرة في يوم عيد أثينة على الثياب الجميلة وعلى وجه العذراء الشاحب بعد
صفحة رقم : 2222
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> أساتذة النحت -> فدياس
دخولها من أبواب المعبد العظيم .
(7/428)
--------------------------------------------------------------------------------
ولم يكن إتمام هذا التمثال من أسباب سعادة فدياس، لأن بعض ما قدم له من الذهب والعاج لصنعه قد اختفى من مُحْتَرفه ولم تعرف أسباب اختفائه. وانتهز أعداء بركليز هذه الفرصة السانحة، فاتهموا فدياس بسرقة الذهب والعاج وأدانوه . ولكن أهل أولمبيا شفعوا له وأدوا الكفالة المطلوبة منه وقدرها أربعون؟ وزنة على شريطة أن يذهب إلى أولمبيا ويصنع فيها تمثالاً من الذهب والعاج لمعبد زيوس(34). وسرهم أن يقدموا له من العاج والذهب أكثر مما قدم له قبل. وبنوا له ولمساعديه مصنعاً خاصاً بجوار حرم الهيكل، وكلف أخوه بانينوس Panaenus أن يزين بالصور العرش الذي يجلس عليه التمثال وجدران الهيكل(35). وإذ كان فدياس مولعاً بالضخامة، فقد جعل ارتفاع تمثال زيوس الجالس ستين قدماً، ولما أن وضع في مكانه في الهيكل شكا النقاد من أن الإله سيخترق سقفه إذا ما بدا له أن يقوم واقفا، ووضع فدياس على "جبيني" الإله الراعد "القائمين" و "غدائره المعطرة" تاجاً من الذهب في صورة أغصان شجر الزيتون وأوراقه. ووضع في يد الإله اليمنى تمثالاً للنصر صغيراً مصنوعاً من الذهب والعاج، وفي يده اليسرى صولجاناً مطعماً بالأحجار الكريمة، وألبسه ثوباً ذهبياً نقشت عليه الأزهار، ووضع في قدميه خفين من الذهب المصمت. أما عرشه فكان من الذهب، والأبنوس، والعاج. وكان عند قاعدته تماثيل صغيرة للنصر، لأبلو، وأرتميز، ونيوبي، ولصبيان من طيبة اختطفهم أبو الهول (37). وكان الأثر الذي يبعثه في النفس هذا التمثال وتوابعه رائعاً قوياً
صفحة رقم : 2223
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> أساتذة النحت -> فدياس
(7/429)
--------------------------------------------------------------------------------
إلى حد جعل الناس ينسجون حوله كثيراً من الخرافات والأساطير. فمن قائل إنه عندما أتمه فدياس طلب أن تطلع عليه من السماء آية تدل على رضائها عن عمله، فأرسلت صاعقة نزلت على الأرض غير بعيدة عن قاعدة التمثال - وهي آية كمعظم الآيات السماوية تقبل عدة تفاسير مختلفة . وعدَّ التمثال من عجائب الدنيا السبع، وكان يحج إليه كل من استطاع الحج ليشاهد الإله المتجسد فيه. ولما فتح إيمليوس بولس Aemilius Paullus القائد الروماني بلاد اليونان ورأى هذا التمثال الضخم استولى عليه الرعب، واعترف أن ما شاهده بعينه قد فاق كل ما كان يصوره له خياله (38). ووصفه ديوكريسوتوم Dio Chrysotom بأنه أجمل تمثال على وجه الأرض، وأضاف إلى قوله هذا ما قاله بيتهوفن في الموسيقى: "إذا وقف أمام هذا التمثال إنسان قد تراكمت عليه الهموم، وتجرع في حياته كأس المصائب والأحزان حتى الثمالة، وطار النوم الحلو من أجفانه، نسي كل ما يصيب الإنسان في حياته من متاعب وأحزان" (39). وقال فيه كونتليان Quintilian: "إن جمال التمثال قد أضاف بعض الشيء إلى دين البلاد، ولقد كان جلاله خليقاً بالإله الذي يمثله"(40).
ولسنا نعرف عن أواخر أيام فدياس شيئاً موثوقاً به. فمن القصص ما يرى أنه عاد إلى أثينة حيث قضى نحبه في السجن(41)، ومنها ما يقول إنه أقام في إليس Elis، وإن هذه المدينة نفسها قد قتلته في عام 432(42). وليست إحدى هاتين القصتين اللتين تتحدثان عن خاتمة فدياس أصدق من أختها. وواصل تلاميذه عمله، وبرهنوا على نجاحه معلماً بما أخرجوه من آيات فنية لا تكاد تقل روعة عن آياته هو. فقد نحت أجركريتس Agoracritus أحب تلاميذه إليه تمثالاً لنمسيز Nemesis طبقت شهرته الآفاق،
صفحة رقم : 2224
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> أساتذة النحت -> فدياس
(7/430)
--------------------------------------------------------------------------------
ونحت الكمنيز تمثالاً لأفرديتي إلهة الحدائق كان لوشان يضعه في مصاف أرقى ما أخرجه المثالون من آيات فنية(43). وكانت خاتمة مدرسة فدياس في نهاية القرن الخامس، ولكنها تركت فن النحت اليوناني أرقى كثيراً مما كان حين بدأت حياتها الفنية، فقد أشرف الفن بفضل فدياس وأتباعه على الكمال في اللحظة التي بدأت فيها حرب البلوبونيز تنزل بأثينة الخراب. لقد أتقنت هذه المدرسة أصول الفن وقواعده، وفهمت تشريح الجسم، وصبت الحياة والحركة والرشاقة في البرونز والحجر صباً، ولكن العمل الجليل الذي يميز فدياس من غيره من المثالين هو ما أخرجه من طراز في النحت جديد عبر عنه أصدق تعبير، ذلك الطراز السامي أو "الطراز العظيم" كما يسميه ونكلمان. وهو طراز يجمع بين القوة والجمال، والتهور والإحجام، والحركة والسكون، واللحم والعظم مع الروح والعقل. وفي هذا الطراز تمثل الفنانون على الأقل بعد ما بذلوا من جهود دامت خمسة قرون ذلك "الصفاء" الذائع الصيت الذي يعزوه المؤرخون بخيالهم إلى اليونان. وكان في وسع الأثينيين ذوي العاطفة الثائرة الجياشة إذا ما تدبروا تماثيل فدياس أن يروا كيف يقترب الآدميون من الآلهة، وإن يكن ذلك فيما أبدعوا من تماثيل فحسب.
صفحة رقم : 2225
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> البناؤون -> ارتقاء فن العمارة
الفصل الرابع
البناءون
1- ارتقاء فن العمارة
(7/431)
--------------------------------------------------------------------------------
تمت سيطرة الطراز الدوري في العمارة على بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يبق إلى الآن من الهياكل اليونانية التي شيدت في ذلك العصر الزاهر إلا قليل من الأضرحة الأيونية وأهمها الإركثيوم وهيكل نيكي أبتروس Nike Opteros المقام على الأكربوليس. وبقيت أتكا في ذلك العهد محافظة على الطراز الدوري، فلم تخضع للطراز الأيوني إلا حين كانت تستخدمه في العمد الداخلية للبروبيليا، وفي صنع إفريز حول الثسيوم والبارثنون. ولعل ما يشاهد من نزعة ذلك العصر إلا إطالة العمود وتقليل سمكه عما كان من قبل يدل على أثر آخر من آثار الطراز الأيوني.
وفي آسية الصغرى أشرب اليونان حب الشرقيين للتحلية الدقيقة وعبروا عن هذا الحب بتنميق الدعامات الأيونية المرتكزة على العمد تنميقاً فيه كثير من التعقيد، وبإيجاد طراز جديد من هذه الدعامات أكثر زخرفاً من الطراز الأيوني يعرف بالطراز الكورنثي. وحدث حوالي عام 430 (حسب رواية فتروفيوس Vitruvius) أن استلفتت نظر مَثال أيوني يدعى كلمسكس Callimachus، سلة لتقديم النذور مغطاة بقرميدة، تركتها مربية على قبر سيدتها، وقد نبتت شجيرة أكنتوس حول السلة والقرميدة. وأعجب المَثال بالصورة الطبيعية التي أوحت بها إليه السلة وما حولها فعدل
صفحة رقم : 2226
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> الفن اليوناني في عصر بركليز -> البناؤون -> ارتقاء فن العمارة