لقد انطلق دوركهايم في أطروحته الشهيرة “حول تقسيم العمل الاجتماعي”، من سؤال مركزي وهو: “كيف يقيم جمع من الأفراد مجتمعا؟ وكيف ينجزون الشرط الضروري – أي الوعي – لوجودهم الاجتماعي؟. وللإجابة عمد عالم الاجتماع الفرنسي إلى إقامة تمييز واضح وصارم بين نمطين مختلفين من التضامن، هما: (التضامن الآلي = mécanique ) و (التضامن العضوي = Organique ). ففي النمط الأول يكون الأفراد متشابهين في مشاعرهم وأحاسيسهم، ويشتركون في نفس القيم، كما أنهم متفقون على نفس المبادئ والأشياء المقدسة؛ ويطغى عليهم – نتيجة ذلك – التجانس لأنهم لم يتباينوا ولم يتغايروا بعد. لكن، وبفعل عوامل الكثافة الاجتماعية وأنماط الاتصال والتقسيم الاجتماعي للعمل، يحدث ذلك الانتقال من النمط الأول أو الحالة الآلية إلى حالة أكثر تطورا وتعقيدا، وهي الحالة العضوية أو ما يصطلح عليه دوركايم بـ “التضامن العضوي الذي يأتي تضامن الأفراد وتماسكهم فيه، نتاجا لتباينهم وتعبيرا عن هذا التباين في نفس الوقت”.لقد كان دوركايم إذن، هو أول من صاغ مفهوم الانقسامLa segmentation أو “النسق الانقسامي”؛ معتبرا بأن المجتمع “القبائلي” بالجزائر يقدم النموذج الأرقى لهذا النمط من التنظيم. فهو مجتمع تقليدي، قبلي، يجهل أي شكل من أشكال السلطة المنظمة، وهذا ما يمنحه خاصية المجتمعات ذات التضامن الآلي، أو ما يمكن تلخيصه في مقولة “النسق الانقسامي”. وقد حدد بذلك إحدى أهم شروط هذا النسق في مقولتي: (التشابه) و (التباين) أو (الاتحاد) و (التعارض): “فلكي يكون التنظيم الانقسامي ممكنا، لابد من أن تتشابه الأقسام، وبدون هذا التشابه لا يمكن أن تتحد و أن تتباين، وبدون هذا التباين والخلاف سيضيع بعضها في بعض، وتنتهي إلى التلاشي.لقد وجد الانقساميون بالطبع ضالتهم في هذا التمييز، حيث أسقطوا النموذج الآلي على مجتمعات قبلية إفريقية، رأوا فيها النقيض التاريخي والسوسيولوجي لمجتمعات أوربا “العضوية” أو (الطبقية)؛ مستندين في ذلك على منهج في المقاربة والتحليل يقوم على أساس الدمج بين الوظيفية Fonctionnalisme والبنيوية Structuralisme). وكانت البداية طبعا، مع الأنثربولوجي الإنجليزي (إ. بريتشارد) الذي يعتبر بحق أول من طبق النموذج الانقسامي على مستوى ميداني، وذلك في إطار دراساته الميدانية حول قبائل “النوير” السودانية وقبائل “بدو برقة” الليبية. فقد استطاع هذا الأخير – وبشكل ذكي – أن يوضح قواعد وأبعاد اللعبة السياسية في المجتمع الانقسامي، والتي صورها على شكل (لعبة الشطرنج). وكان من بين أهم نتائج أبحاثه تلك – حول قبائل النوير السودانية – هو أن القبائل تكون وحدة سياسية، وهي منبثقة من جماعات متعددة (عشائر)، كما أن القبائل المتعددة تشكل بدورها اتحادا قبليا أو تحالفا، وهذا هو أرقى مجتمع سياسي يعرفه هؤلاء القبليون. كما حاول إبراز كيفية اشتغال آليتي “التعارض” و “التحالف”، كما صاغهما دوركايم من داخل النسق الانقسامي، لتصبح القبيلة أو البناء القبلي على شكل “نظام وظيفي” تحكمه “بنيات القرابة والنسب”، في إطار اللعبة الانقسامية التي تتحدد من خلال القسمات المتعارضة والمتوازنة أيضا. فكلما تم الانتقال إلى مستويات أعلى، كلما اختفت عوامل الصراع والتعارض، بدءا من خط النسب وانتهاء بالقبيلة، ثم الاتحاد القبلي.في مجتمع كهذا إذن، تحكمه آليات الانشطار والانصهار التي تخضع بدورها لمنطق النسب، لا وجود لأي نوع من التراتب الاجتماعي، لأن أساس المجتمع الانقسامي هو وحدة النسب؛ مع ما تفرضه هذه الوحدة من مساواة بين كل مكونات النسق. وهذا يعني من بين ما يعنيه: غياب أي احتكار للعنف المشروع (السلطة)؛ لأن “البنية الانقسامية تحول ضد تمركز السلطة في أية هيأة أو جهاز خاص”، والنتيجة طبعا غياب الدولة في الأصل.قبل الانتقال إذن إلى عرض وتحليل أهم نتائج الطرح الانقسامي، وذلك من خلال بعض النماذج من الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية حول المغرب، يبقى من الضروري الوقوف – ولو بإيجاز – على الإسهام النظري الهام الذي قدمه (روبير مونطاني) من خلال أطروحته الشهيرة حول “البرابرة والمخزن بالجنوب المغربي”. هذه الأطروحة التي شكلت، حسب أحد الباحثين، منطلقا مرجعيا بالنسبة لإرنست كلنر E.Gelner و دافيد هارت D.Hart في دراستهما لمناطق أخرى من المغرب، غير منطقة سوس بالجنوب.لقد قام (R.Montagne ) بتوصيف وتحليل طبيعة النظام السياسي بالقبائل البربرية السوسية، كنظام أصبح يفقد تدريجيا أصالته مع الزمن؛ لتكتمل الصورة بشكل أوضح وأفضع مع مرحلة “حكم المخزن”، الذي تعتبره هذه القبائل كيانا استعماريا بالأساس. وهكذا، فقد مر النظام السياسي بالقبائل البربرية بأربعة مراحل أساسية هي على التوالي: (حكم جمهوري ديموقراطي وأوليغارشي، حكم “الإمغارن” أو الشيوخ، حكم القواد الكبار؛ ثم أخيرا حكم المخزن)، هذا الأخير الذي يعتبره (روبير مونطاني) بمثابة ضربة قاضية للديموقراطية “البربرية”، ونيلا من واقع استقلالية الشخصية القبلية لدى “البربر”.ولتوضيح الصورة أكثر حول هول “الكارثة” يعود بنا الباحث، وبكثير من التفصيل، إلى عرض وتحليل لأهم مكونات البناء الاجتماعي والسياسي للقبائل البربرية؛ قبل تعرضها لهذا الاكتساح المخزني. فهذه الأخيرة عنده “عبارة عن جمهوريات بربرية، تشبه في تشكيلتها الجمهوريات ذات الطابع الديموقراطي العسكري”. ويوكل أمر البث في الشأن السياسي لهذه الجمهوريات، إلى “الجماعة” باعتبارها هيأة سياسية منتخبة بشكل ديموقراطي ويعين على رأسها شيخ (أمغار). وباختصار يمكن رصد أهم مكونات البناء القبلي لهذه “الجمهوريات البربرية”، حسب روبير مونطاني، فيما يلي:1- الدوار، ويضم من 20 إلى 30 كانونا.2- الفخذة أو العظم، وتضم ثلاثة إلى أربعة دواوير.3- الفرقة أو الخمس، وتضم من ثلاثة إلى خمسة أفخاذ. وهي تمتاز بكونها وحدة سياسية، مما جعل (روبير مونطاني) يعتبرها بمثابة جمهورية مستقلة، في إطار النظام السياسي الجمهوري / البربري.4- القبيلة، وتتكون من ثلاث إلى إثنى عشرة فرقة؛ وتمتاز باسم خاص بها يستمد غالبا من جد مشترك، أكان هذا الأخير حقيقيا أو وهميا. كما أنها تحتل مجالا جغرافيا محددا، ولها عاداتها وتقاليدها ومؤسساتها السياسية، وبالمثل فهي تتوفر على أسواق ومواسم خاصة بها.5- اللف، وهو تحالف حربي بالأساس يجمع عدة قبائل، في إطار اتفاقية الدفاع المشترك؛ وهذا إن دل على شيئ فإنما يدل على على الطبيعة الانقسامية للبناء القبلي.إن أهم ما استفاده “كلنر” و”د.هارت” من أطروحة “ر.مونطاني” هذه، هو تأكيدها على الطبيعة الصدامية بين القبائل البربرية والدولة المغربية: ممثلة في (المخزن العربي/الإسلامي). ولعل هذا ما صاغه مونطاني في إطار مقولة: (السيبا) المعروفة جدا في الأدبيات الكولنيالية، والتي تترجم سوسيولوجيا إلى وجود فصل تام بين المخزن الذي يستوطن المدن والسهول، وبين البربر المتحصنين بالجبال والرافضين لهذا الكيان “الدخيل” الذي لا تجمعهم به إلا علاقة صدام وحرب.مسألة أخرى ركز عليها ر.مونطاني، وشكلت منطلقا أيضا بالنسبة للإنقساميين، ويتعلق الأمر بالتضخيم من واقع الصراعات والحروب القبلية؛ لدرجة يستحيل معها تاريخ القبائل بالمغرب إلى تاريخ عنف وأحلاف حربية مدمرة (لفوف). ولعل ذلك يجد تفسيره لدى هؤلاء في غياب سلطة سياسية مركزية، وفي هيمنة المنطق الانقسامي/ النسبي. بعد هذا العرض الموجز والمركز، حول ما يمكن أن نصطلح عليه هنا بـ (جوانب من العلاقة التأسيسية بين كل من الخلدونية والسوسيولوجيا الوضعية من جهة وبين الأطروحة الانقسامية)؛ ننتقل إلى طرح السؤال التالي: ما هي أهم نتائج هذه الأطروحة على مستوى النظرية والتطبيق الميداني؟ خاصة فيما يتعلق بمفهوم “النسب” ودلالاته السوسيولوجية من داخل النسق الانقسامي، ثم مفهوم التراتب الاجتماعي الذي يحيلنا بدوره على مفهوم السلطة، وأشكال ومستويات انتظام البناء الاجتماعي – السياسي للقبيلة.