الحوار كلمة محببة إلى سهلة على الآذان, لأنها, - في اللغة العربية- بنت عائلة, تدل معاني كلماتها الأخريات على الرجوع, وعلى جمال العين, وعلى البياض في الثياب, وعلى المناصرة وعلى المجاوبة والتجاوب, ففي المختار من الصحاح : المحاورة : المجاوبة والتحاور والتجارب وإذا وجد الإنسان لحديثه مجيباً أو مجاوباً كان ذلك أدنى إلى رضاه لأنه يشعره بإحترام السامعين لما يقول, وعنايتهم به, وإهتمامهم بلفظه أو مضمونه.
أما إذا تكلم فلم يكن لكلامه عند السامعين صدىً, فإن ذلك يشعره بالإستنكار لما يقول, أو الإستهانة بقائله وهما شعوران سلبيان يصيبان بالأسى ويدعوان إلى العزلة, أو يدفعان إلى العنف والثورة. وكل ذلك لا تصيب البشرية به خيراً.
وقد تردد لفظ الحوار في العقود الأخيرة من هذا القرن الميلادي, في محافل شتى, وصفت به أنواع من العلاقات متباينة, لا يستطيع المراقب أن يقول أنها كلها كانت مجاوبة وتجاوباً إيجابيين مما يؤدي إلى النفع العام للمحاورين - أفراداً وجماعات - بل كان بعضها كذلك.
وكان بعضها الآخر محاولة من القوي لفرض رأيه وثقافته, ونظرته إلى الكون والناس والأشياء, ودعت منظمات عديدة " لحوار الثقافات " في الثمانينات من هذا القرن ثم انتهى هذا الحوار إلى أوراق في كتب نشرت عن لقاءاته, لكنها لم تثمر تغييراً ثقافياً حقيقاً ملموساً حتى الآن. وحين ترددت في أرجاء الكون الثقافية والسياسية صيحة الكاتب الأميركي صاموئيل هنتنغتون عن " صراع الحضارات " أو " صدامها " كان البديل, العاقل المحتمل, لها هو الحديث عن حوار الحضارات, والدعوة إليه, والعمل على إنجاحه, لتجنب البشرية ويلات الصراع, وللتحاشي أثار الصدام المؤلمة أو المدمرة.
وحوار الحضارات مطلب إسلامي عبّر عنه كثير من المفكرين الإسلاميين, بل ردوا به على تحليلات صأموئيل هنتنغتون الخطيرة والمخيفة. وكان من أبرز هؤلاء رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران السيد محمد خاتمي في مقالاته الشهيرة عن هذا الموضوع.
شروط الحوار الحضاري
لا يحقق حوار الحضارات نجاحه المبتغي, ولا يصل إلى هدفه المنشود ما لم تتوافر له شروط هذا النجاح ومقومات تحقيق هذا الهدف.
أولاً : الإعتراف بالآخر :
وأول الشروط التي لا يتم الحوار أصلاً دون توافرها هو أن يكون كل من طرفي الحوار أو أطرافه - معترفاً بالآخر وبالآخرين . فالحوار يقتضي قبولاً مبدئياً - على الأقل - بوجود الآخر, وبحقه في هذا الوجود , وبخصوصيته التي لا يجوز لأحد أن يسعى إلى تغيرها, وبمقومات إستمرار بقائه مغايراً ومتميزاً, وبحقه في المحافظة على هذه المقومات وتوريثها في أجياله المتعاقبة جيلاً بعد جيل.
وًليس المقصود بالاعتراف بالآخر مجرد المعرفة بوجوده فنحن نعرف بوجود الجمادات والحيوان والطير والسباع, ونعرف من محكم القرآن إنها أمم أمثالنا: ( وما من دابة في ا لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاً أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ).
ولكن لا يخطر في بالنا أن نقيم حواراً مع شيء من هؤلاء, وإنما نتنفع بما ييسر الله لنا الإنتفاع به منها, ونتقي, بما أوتينا من حيلة ووسيلة, باس ما لا ينفع وشره وليست كذلك علاقة جماعة بني الإنسان بعضهم ببعض. أو هي ليست كذلك وجهة النظر الإسلامية, إن شئنا أن يكون تعبيرنا أصدق.
فالإسلام يعلّم أبناءه أن الخلق كلهم من أصل واحد ( يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ). وفي آية أخرى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة, وخلق منها زوجها, وبث منها رجالاً كثيراً ونساءً, واتقوا الذي تتساءلون به والأرحام, إن الله كان عليكم رقيباً).
والمسلمون لا يكونون كذلك - أي لا يكونون مسلمين - إلاّ إذا كان إيمان الواحد منهم وإيمانهم الجماعي, على نحو ما أمرهم الله بقوله: (آمن الرسول بما انزل إليه من بره, والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله, وقالوا سمعنا واطعنا, غفرانك ربنا وإليك المصير ) وثناء القرآن الكريم على الرسل أجمعين وعلى الذين لهم أمم تتبعهم منهم, ثناء متصل غير منقطع, يتعبد المسلمون بتلاوته وإمعان النظر في معانيه إلى يوم الدين.
ولا يقف الأمر عند المذكورين في الكتاب, وصحيح السنة, من الأنبياء المرسلين أصحاب الأديان والكتب, بل يقرر القرآن صراحة أن من الرسل من لا نعرفهم ولم يصلنا - عن طريق الوحي - شيء من أنبائهم ( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك, وكلّم الله موسى تكليماً ). والإيمان بهؤلاء جزء من إيمان المسلمين, شأنه شأن الإيمان بمن عرفناهم وقص القرآن على النبي (ص) قصصهم.
فإذا كانت الحضارة مبنية على الدين, كأن يقال الحضارة المسيحية أو الحضارة اليهودية فإن اعترافنا بهذا الدين نفسه وبرسوله, وبما أنزل عليه من كتاب, يتضمن اعترافنا بالحضارة المنسوبة إليه, أو القائمة عليه, ولو كانت هذه النسبة إدعاءً محضاً. فإن التبعة في المخالفة للهدى الموحي أو تحريفه إنما تقع على المخالفين أو المنحرفين, وما علينا من حسابهم من شيء.
وإذا كانت الحضارة مبنية على أصل لا يستمد من الدين شرعيته أو وجوده, فإن المسلمين مأمورون بالتعرف عليها والنظر في أحوالها والإعتبار بما يقع لأصحابها من خير وشر: (قل سيورا في الأرض فانظروا كيف بدا الخلق, ثم الله ينشىء النشأة الآخرة, إن الله على كل شيء قدير), وفي القرآن الكريم جاء الأمر بالسير في الأرض مقروناً دائماً بالأمر بالنظر فيه للتدبر والإعتبار.
قال تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)., وقال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت, فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عيه الضلالة, فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ).
وقال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت, فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
هذه آيات وغيرها تجمع بين الأمر بالسير في الأرض والأمر بالنظر الذي يقتضي التعرف على الآخرين, وعلى حضاراتهم، وإنجازاتها ومكتسباتها، وما لها. وفي القرآن الكريم الأمر الصريح بأن سبب إختلاف الخلق - شعوباً وقبائل - هو تيسير التعارف بينهم (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبير).
والتعارف يقتضي تقارباً بين المتعارفين، وتسليماً متبادلاً باختلاف كل منهما عن الآخر، ولا يستمر الأمر بالتعارف مطاعاً إلاّ إذا استمر التغاير والإختلاف بين الناس المخاطبين بهذه الآية الكريمة - جميعاً - قائماً.
فأبناء الحضارة الإسلامية، والداعون إلى مشروعها الإجتماعي في عصرنا، يسلمون بمقتضى هذا الشرط الأول من شروط نجاح حوار الحضارات، ولا يطلبون من أبناء الحضارات الأخرى إلاّ الآن يكون لهم الموقف نفسه، وإلاّ فإن الحوار سيصبح حديثاً من طرف واحد، أو محاولة كل طرف غزو الطرف الآخر ودحره، وهكذا يعيش العالم صراعاً وصداماً، ولا يعش حواراً ولا تعارفاً.
ثانياً: التبادل الحضاري
والشرط الثاني من شروط نجاح الحضارات واستمراره هو أن يتحقق له معنى التبادل بأن يكون لكل طرف من أطرافه حق قول رأيه وبيان موقفه من القضايا التي يجري الحوار حولها، مهما كان هذا الرأي أو الموقف مخالفاً لما يعتقده أو يفعله، أو يدعو إليه ويدافع عنه الآخرون والحوار - في اللغة العربية - على صيغة فعال، وهي جمع فعل، أي أنه لا يتحقق بفعل طرف واحد، وإنما بأفعال أطراف متعددين.
وبغير ذلك يتحول الحوار إلى درس أو محاضرة، أو إملاء رأي، لا يستفيد منه المتكلم ولا السامع. فأما المتكلم فلم يستفد شيئاً من الإستماع إلى نفسه، ولم يضف إلى عقله ومنطقه قوة بتكراره إياه وأما السامع - المخالف له - فقد حرم من حقه في التعبير عن نفسه، فهو إلى رفضه كل ما قاله الآخر، ولو بعضه حقاً، أدنى منه إلى مجرد التفكير فيه فضلاً عن قبوله والحضارات المتباينة الحية، تملك كل منها مقومات خاصة بها، ويراها أصحابها صواباً نافعاً، وقيمة الحوار بينها تبدو في تعرف أبناء كل منها على الأخرى كما يراها أصحابها، لا كما تراها أعين الغرباء عنها، رضاءً كان ما تظهره هذه العين أم سخطاً، نقصاً كان أم كمالاً، جزئياً كان قاصراً كان أم كلياً شاملاً.
ثالثاً - الثقافة
والشرط الثالث من شروط نجاح الحوار بين الحضارات وإستمراره أن يكون نشاطاً دائماً متجدداً، لأن الإحاطة بجوانب التميز والتغاير، ثم الإفادة منها في تبادل الخبرة والمعرفة ووسائل النمو والترقي، لا يتم في جلسة أو عدة جلسات ولا يحيط به فرد أو مجموعة أفراد ولكنه يحتاج إلى تواصل مستمر يتعدد المشاركون فيه بتعدد جوانب الحياة وتكاثر التخصصات فيها, حتى يؤتي ثمرته ويحقق غايته.
والشرط الر ابع من شروط نجاح حوار الحضارات وإستمراره أن يكون محوره الثقافة التي تعبر عنها الحضارات المختلفة، والنشاط البشري الذي تتمثل فيه هذه الثقافة ومن معاني هذا الشرط وضروراته أن تستبعد من الحوار بين الحضارات موضوعات العلاقات السياسية, والتبادل الاقتصادي، والاختلاف الديني.
الدين والحوار الحضاري:
والحوار بين أهل الأديان المختلفة - عندي - له هدف واحد هو أن ييسر للناس العيش معاً في مجتمعات مختلف الأديان، عيشاً تسود فيه الأخوة الإنسانية، ويجري على قاعدة المشاركة المتساوية في المواطنة، ويرمي إلى أن لا يظلم أحد حقاً هو له بسبب تميزه الديني عن الآخرين، ولا يأخذ أحد حق غيره بسبب إنتمائه الديني إلى عقيدة الحاكمين، أو الكثرة من المواطنين.
ثم أن الحوار بين الأديان - حين تختلف الأوطان - يجب أن يتجه إلى هذه الغاية نفسها: كيف يعيش الناس معاً في عالم يتسع للجميع، على الرغم من اختلاف العقائد والشعائر والملل والنحل.
ونحن في داخل الوطن الواحد نسعى إلى تحقيق "العيش الواحد" بين المواطنين مهما اختلفت أديانهم أو مذاهبهم أو مشار بهم العقيدية داخل هذه الأديان والمذاهب والعيش الواحد هو حياة المواطنين المتساوين في أصل المواطنة، وفيما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وفيما يكون نصيباً لكل مواطن من غرم أو غنم، لا يفرق بينهم في ذلك كله - أو بعضه - إن أحدهما يتبع ديناً والثاني يعتنق ديناً آخر, وإنما يجمع بينهما الإشتراك في الإنتماء إلى الوطن الذي هم بنوه جميعاً.
بهذه الصورة للحوار، وبهذا النطاق له، يمكن أن يستمر الحوار بين الحضارات وينجح. أما إذا أريد بالحوار بين الحضارات خضوع الناس جميعاً لنمط واحد من أنماط الحياة البشرية، وتحويل الأساليب المتباينة إلى منظومة واحدة من الأساليب المقبولة في حضارة بعينها والقضاء على ما سواها، أو ما أريد به هذا المفهوم الجديد للسيطرة على الدنيا والهيمنة على جميع الخلق المسمي.
ب: "العولمة" التي لا تحترم خصوصية ثقافية، ولا تعتبر أي شأن من الشؤون وقفاً على أصحابه، وتتدخل حتى بين المرء وزوجه، فتغير التشريعات وأنماط السلوك والعلاقات لتتحول الثقافات كلها إلى مسوخ تابعة لحضارة مسيطرة، فإن هذا له لا يقبل ولا يعقل ولا يكتب له أن يستمر.
و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.