قول يتداوله الناس وقلة منهم يعرف قائله ولماذا قيل . إنه الشاعر الجاهلي امرؤ القيس من قبيلة كندة وهي قبيلة يمنية كانت تنزل في غربي حضرموت وقد قيل إن أباه حِجرا طرده وأقسم ألا يقيم معه ، فراح يسير في أحياء العرب ومعه مجموعة من شذّاذ القبائل فإذا صادف غديراً أو روضة
أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج للصيد فتصيّد ثم عاد ليأكل ويشرب الخمر هو ورفاقه وهكذا حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدَمّون من أرض اليمن ، فإذا به يقول :
( ضيّعني صغيراً و حمّلني دمه كبيراً ، لاصحو اليوم ولا سكر غداً ، اليوم خمر وغداً أمر ) .
ثم شرب سبعاً ، فلما صحا أخذ على نفسه ألا يأكل لحماً ولايشرب خمرا ولا يدهن بدهن ولايقرب النساء حتى يثأر لأبيه ، فانقسمت أشعاره قسمين قسماً نظمه قبل مقتل أبيه وقسماً بعد مقتله .
أما القسم الأول فلا يعدو المعلقة التي يستهلها بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والمطولة الثانية في ديوانه : ( ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ) وهما تتضمنان الموضوعات التي نظم فيها امرؤ القيس شعره كوصف الخيل والليل والبرق والمطر والسيل وكالغزل القصصي الصريح الذي كان أول من بدأه ونماه من بعده الأعشى و ( عمر بن أبي ربيعة في العصر الأموي ) - ويقول متحدثاً عن حبّه لفاطمة مصوراً دلالها :
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرّك مني أن حبّك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
ويقول واصفاً الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لاتنتهي :
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
أما فرسه الأشقر فقد وصفه وصفاً رائعاً وصور سرعته تصويراً بديعاً :
مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبرمعاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونى
أثرن غباراً بالكديد المركل
ووصف وميض البرق وتألقه في سحاب متراكم وشبه هذا التألق واللمعان بحركة اليدين إذا أشير بهما وكأنه مصابيح راهب يتوهج ضوءها بما يمدها من زيت كثير :
أحارٍ ترى برقاً كأن وميضه
كلمع برق في حبيّ مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب
أهان السّليط في الذبال المعقل
أما المطر المنهمر والسيل فنجد كثيراً من معانيه وصوره في هذين البيتين :
ديمة هطلاء فيها وطفٌ
طبق الأرض تحرّى وتدُرّ
وترى الشجراء في ريِّقه
كرؤوس قطعت فيها الخُمُر
فالمطر ينهمر ويدنو من الأرض ويثبت فيها ، ويغمر الأشجار فلا يبدو منها إلا أعاليها فتبدو كأنها رؤوس قطعت وعليها الخُمر والعمائم.
لكن كتب لامرئ القيس أن تنقلب حياته من حياة لاهية الى حياة جادة ومحاولة عاثرة في الأخذ بثأر أبيه وكأنه كان يحس ما ينتظره حين قال في مطولته :
كأني لم أركب جوادا للذة
ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزقّ ولم أقل
لخيلي كُري كرّة بعد إجفال
وهانحن نجد معاني الحزن والألم العميق وشكوى الدهر في مقطوعته التي رواها الأصمعي :
إلى عرق الثرى وشجت عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابي
ونفسي سوف يسلبها وجرمي
فيلحقني وشيكا بالتراب
فالشاعر لايجد أمامه إلا الموت الذي أخذ أباه وأعمامه والذي يراه أمام عينيه .
هذه قصة قول - غدا مثلاً - لشاعر الليل والخيل وشاعر المطر والغزل القصصي والشكوى من الدهر.
العروبة