الأسطورة تعريفها ونشأتها ونظرياتها

الأسطورة :
I. مفهوم الأسطورة :
يتفق المؤرخون بأن الأسطورة تعود إلى أزمان سحيقة للتاريخ الإنساني قبل معرفة الكتابة بزمن طويل، فقد تمكنت الحملات الغربية في العصر الحديث التي توجهت للتنقيب عن الآثار في مجموعة من البلدان، خاصة مصر والتي ابتدأت مع نهاية القرن التاسع عشر، حيث تم العثور على ألواح طينية وجدران معابد دونت عليها رسومات ورموز وإشارات، حيث عرفت تلك المدونات بالأساطير .

عموما فالأسطورة في اللغة العربية من سطر وهو بمعنى تقسيم وتصنيف الأشياء، فالأسطورة تعني الكلام المسطور المصفوف، ولا يشترط فيها أن تكون مدونة أو مكتوبة، ولكن بالضرورة هي الكلام المنطوق المنظوم سطرا وراء سطر، فتظهر مصفوفة كقصائد الشعر، مايسهل حفظها وتداولها عبر أشكال شفهية أولية أو مباشرة بالأساس، الأمر الذي يسهم في الحفاظ على بنياتها وكلماتها .

ويرى بعض الباحثين أن الكلمة مقتبسة من اللغة اليونانية، حيث يقول { وديع بشور} " وكلمة أسطورة مقتبسة من كلمة HISTORIA اليونانية وتعني حكاية أو قصة " إلا أن كلمة أسطورة حسب{ وديع بشور} تعني حكاية غير حقيقية أو على عكس الحقيقة، بينما كلمة HISTORIA اليونانية تعني تاريخ "، وفي قاموس محيط المحيط، سطَّر أي ألَّف، وسطر فلان أي أتانا بالأساطير ، ومنها السطرالذي يعني الخط والكتابة، ومنها أسطر وسطور وهو الصف من الشيئ، كالكلمات والشجر ومنها السُّطُرُ وتعني الأقاويل المنمقة المزخرفة...إلخ

جاء في كتاب الباحث والفيلسوف { مرسيا إلياد} تعريف للأسطورة، حيث أن الميتوس Mythos وتعني عند الإغريف حكاية، والأسطورة تروي قصة مقدسة وحادثا وقع في زمن البدء، ولا يروي الميتوس إلا ما حدث فعلا ويفسر ماهو كائن وموجود فعلا، لذلك فهو قصة حقيقية، ويقول أن الأساطير تنبعث من حاجة دينية عميقة وتوق أخلاقي، كما بارتباط بإلاه معين، تقام له ممارسات معينة، تحكي حياة أسر وجماعات كانت خاضعة لهذه الألهة، مايعني أنها مرتبطة بانضباطات وتحديدات تظهر في صبغة اجتماعية ومتطلبات علمية، وكما يقول مالينوفسكي فإن الأساطير تلعب في الحضارات القديمة البدائية دورا ضروريا، إذ أنها تعبر عن المعتقدات، كما أنها تشريع حقيقي للديانة البدائية وللحكمة العلمية، حيث المزج بين الخيال والحقيقة في بعض الأحيان ".

لا بأس للوقوف هنا عند بعض التحديدات التي حدها مجموعة من الباحثين لمفهوم الأسطورة، حيث يرى {غوستاف يونغ} أن الأسطورة تنير جوانب النفس الإنسانية، وأن المجتمع الذي يفقد أساطيره، بدائيا كان أم متحضرا يعاني كارثة تعادل فقدان الإنسان لروحه، ومن تمة فالإسطورة بذلك حقل لمواجهة الهشاشة السيكولوجية بتعبير{ سيغموند فرويد}.

أما الفيلسوف الألماني { إرنست كاسرير}، فيؤكد أن " الأسطورة تمثل قوة أساسية في تطور الحضارة الإنسانية، عبر الإنسان من خلال رموزها عن اهتماماته وتطلعاته، وقد وجد أنها تكون مع اللغة والفن والدين صورا حضارية، تبدعها طاقة الإنسان الرمزية

ويقدم {فراس السواح} في كتابه{ الأسطورة والمعنى} مقدمة مهمة قبل طرح تعريف الأسطورة عين فيها المعايير الدقيقة التي تميز النص الأسطوري عن غيره من النصوص، وهو يرى أن تحديد المعايير يعتبر أمرا بعيد التحقق في ضوء الوضعية الراهنة للبحث الميثولوجي، ومع ذلك فإنه يمكن أن نقتبس المتن التالي :

1. من حيث الشكل : الأسطورة هي قصة بما تحتويه من حبكة وعقدة وشخصيات مصاغة في قالب شعري يساعد على سرعة تداولها شفهيا وبالتالي حفظها .
2. يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن، وتتناقله الأجيال طالما حافظ على طاقته الإيحائية بالنسبة للجماعة، دون أن يعني ذلك الجمود أو التحجر، فالفكر الأسطوري قادر على خلق أساطير جديدة أو تجديد الأساطير نفسها .
3. تتميز موضوعات الأساطير بالجدية والشمولية، مثل مواضيع التكوين والأصول والموت والعالم الآخر، ومعنى الحياة وسر الوجود، أي أنها موضوعات أنطولوجية بالدرجة الأولى تتغدى من تمثلات ذات طابع ديني مرتبط بآلهة معينة في غالبية الأحيان، وهي تشترك في مضوعاتها مع الفلسفة، إلا أن الفلسفة تلجأ إلى المحاكمة العقلية للمفاهيم والعلوم في إطار مايسمى بالمنطق أو القياس، بينما تلجأ الأساطير إلى الخيال والعاطفة والترميز .
4. تبعث الأسطورة رسالة غير زمنية وغير مكانية محددة، بل إنها رسالة كونية وسرمدية خالدة، تنطق من وراء تقلبات الزمن الإنساني وتجعلها أكثر صدقا وحقيقة عند المؤمن بها أكثر من أية مضامين تاريخية أو روائية أخرى .
5. ترتبط الأساطير ارتباطا وثيقا بنظام ديني معين، وتعمل على توضيح معتقداته، وتدخل في صلب طقوسه، بحيث أنها تفقد كل مقوماتها إذا انفصلت عن هذا النظام وتتحول إلى شيئ آخر غير الأسطورة .
6. تتمتع الأساطير بقدسية وسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم .
انطلاقا من هذا يمكن القول على أن : " الأسطورة هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة اإنسان" وتقريبا وفي نفس السياق يرى {توثيق حضاري} في كتابه الأسطورة أن الأسطورة " هي القصة الشعرية المصفوفة زجلا أو شعرا بحيث تحوي موضوعا دينيا يتعلق بالقوى العلوية والخفية وتعبر عن معارف الإنسان الأول وأخلاقه ومستويات علومه وتأملاته، وهي موضوعة في قالب ذي إيقاع شعري موسيقي يتضمن الحدث المراد تأريخه سواء كان من صنع الإنسان أو الطبيعة أو الرب، لأجل أن يتلى ويتداول ويؤدي دوره في تثقيف العقول وتحريك المشاعر ، اعتمادا على قاعدة التكرار والإستمرارية ، هذا التكرار قد نجد معناه بالأساس، انطلاقا من الوقوف عند الوزن الصرفي لكلمة الأسطورة، حيث نجد أنها عللى وزن " أفعولة " كالأكذوبة والأنشودة والأرجوحة والأحدوثة والأطروحة والأضحوكة والألعوبة...ولعل هذا الوزن في اللغة العربية يشير إلى مدلول خاص، ففي اللغة العربية ليست النشيدة كالأنشودة، والحديث كالأحدوثة، والضحك ليس كالأضحوكة واللعب ليس كالألعوبة، فإلى جانب كون الوزن يدور في مستوى المفعولية لا الفاعلية، فإنه أيضا يفيد التكرار والإستمرارية، فالأنشودة هي نشيدة باتت تتكرر على الألسن، والألعوبة تقال حينما يصبح الشيئ مادة للعب به في عدة اتجاهات، كذلك فإن الأحدوثة ليست كالحديث، يقول صاحب قاموس محيط المحيط أن الأحدوثة هي ما يُتحَدَّث به مرارا، وينقل عبر أشكال تداولية شفهية بالأساس، وذات طابع أولي مباشر أو خالص في بدايات تداولها في المجتمعات الأولية، حيث تبرز سلطة القول POUVOIR DE DIRE بشكل قوي، مقابل سلطة الحرف POUVOIR DE L’ECRIRE تتجلى في الحضور القوي للأشكال الشفهية المباشرة أو الخالصة بتعبير PAUL ZUMTHOR في كتابه Introduction à la poésie orale حيث يتحدث عما يسميه " oralité pure" .

إن الشكل الذي خرجت به الأساطير، والذي يغلب عليه الطابع القصصي المصاغ في قالب شعري، يعتمد على المحسنات الأدبية والإستعارات التشبيهية والبيانية والبديع والخيال، ساعدا كثيرا على سرعة حفظها وتناقلها بين العامة وترتيلها في المناسبات والطقوس، لتكون بذلك الأسطورة أبرز أشكال التعبير عن المأثور الشفهي، خاصة أن أبرز مايعبر عنه هذا البُنْد الشفهي، يتمثل في ذلك الكلام الذي يُمَيز ويًختَار بعد أن يُترك وينقضي كل الكلام، حيث يبقى كلام مميز ومتميز يَتكرر ويُتداول عبر الألسن، ليعبر عن منظومة أو نسق من العلاقات القائمة بين الجماعة، صراعية كانت أم سلمية، عرضية أو مرغوبا فيها، إيجابية كانت أو سلبية، غير أنها تجتمع في التعبير عن تجارب ومواقف جماعية، كما عن سلوك وطريقة عيش ونمط تفكير، بالنسبة لجماعات في لحظة زمانية معينة وفضاء جغرافي معين ، تعتبر البساطة أبرز مميزاته .
II. نشأة الأسطورة :
في محاولة من علماء التاريخ والميثولوجيا، تفسير نشأة الأساطير وتحديد بداياتها وبيان أسبابها وبواعثها نجدهم لايتفقون على أسباب محددة، إذ منهم من يرى أن كلمة الأسطورة ترتبط ببداية الحياة على الأرض، حيث كان البشر يمارسون السحر ويستحضرون الأرواح الشريرة ويؤدون طقوسهم الدينية لأجل التعايش مع الطبيعة والرغبة في تفسير ظواهرها، ومنهم من يرى أن الأساطير إنما نشأت استجابة لعواطف الجماعات القاهرة كالملوك والكهنة، ومنهم من يرى أنها تراكم نتائج الفكر الإنساني المبدع في مجال الأدب، تصدر في الغالب عن حكيم القوم ويتناولها الرواة بالإضافة عليها من حياتهم الخاصة .
ولتجاوز هذا المشكل أو بالأحرى الأشكالية العقيمة، وفي محاولة منا للوصول إلى أرضية علمية مشتركة في تفسير أصل الأسطورة، يمكن أن نستعين ب{ توماس بوليفينشي} في كتابه { ميتولوجيا اليونان والرومان} والذي يرى وجود أربع نظريات في تحديد أصل الأسطورة، وهي على الشكل التالي :
1. النظرية الدينية : ترى أن حكايات الأساطير مأخوذة كلها من الكتاب المقدس، مع الإعتراف بأنها غُيرَتْ أو حُرِفَتْ .
2. النظرية التاريخية : يتزعمها {يوهميروس} وتذهب هذه النظرية بالقول إلى أن الأساطير عاشوا فعلا وحققوا سلسلة من الأعمال العظيمة، ومع مرور الزمن أضاف إليهم خيال الشعراء، ماوضعهم في ذلك الإطارالغرائبي الذي يتحركون خلاله في جو الأسطورة .
3. النظرية الرمزية : تقوم على مسألة أن كل الأساطير، ليست سوى مجازات فهمت على غير وجهها الصحيح أو فهمت حرفيا .
4. النظرية الطبيعية : بمقتضاها يتم تخيل عناصر الكون من ماء وهواء ونار في هيئة أشخاص أو كائنات حية، أو أنها تختفي وراء مخلوقات خاصة، وعلى هذا الأساس وجد لكل ظاهرة طبيعية ابتداء من الشمس والقمر والبحر وحتى أصغر مجرى مائي_كائن روحي_ يتمثل فيه ونبني عليه أسطورة أو أساطير.
في نفس الإطار نجد أن الدكتورالطاهر وعزيز في كتابه { بنيوية كلود ليفي ستراوس} يشير إلى نظريتين أخريتين، هما النظرية اللغوية ونظرية التحليل النفسي .
1. النظرية اللغوية : يمثلها على الخصوص { ماكس شلر} ويرى أن الصور الأسطورية تجسد وقائع طبيعية وبالأخص الكواكب والظاهرات المناخية، وتعبر بشكل أو باخر عن مرض اللغة وعجزها في التعبير عن المخيال الشعبي للمجتمعات.
2. نظرية التحليل النفسي : يركز { سيكموند فرويد} على الأحلام في تفسيره للأساطير، فهي عنده بقايا مشوهة من خيالات الشعوب، وهي الأحلام العتيقة عند الشعوب، وهناك تطابق في الشكل والمعنى بين الأسطورة والحلم، وهما معا يصدران عن تصورات مكبوية ويستخدمان نفس الرموز وتعبر عن نفس الرغبات والدوافع العدوانية، بيد أن الأسطورة ترجع بنا إلى ماقبل تاريخ الجماعة، في حين أن الحلم يرجع بنا إلى ماقبل تاريخ الفرد .

جزاك الله خيرا